الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فأمَّا من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة، فاختلفوا في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ} [50 الكهف] لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم، على أربعة أقاويل:أحدها: أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنًّا كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهادًا، وهذا قول ابن عباس.والثاني: أنه جعل من الجنِّ، لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ، فاشتق اسمه منها، وهذا قول ابن مسعود.والثالث: أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه، وهذا قول ابن زيدٍ.والرابع: أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر، حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جنًا لاستتارهم، وهذا قول أبي إسحاق، وأنشد قول أعشى بني ثعلبة: فسمَّى الملائكة جنًا لاستتارهم. اهـ.
وكون الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك والملك ما دام ملكًا لا يعصي. وكونه مخلوقًا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضًا ولا قادح في ملكيته لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه، وورد أن تحت العرش نهرًا إذا اغتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربًا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما شئت من ملك وجن وشيطان، وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} [النساء: 9 2] و{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 6 5] و{مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ} [النساء: 2 9] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولًا بنقيض ما حكمت به ولابد من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا نحو رأيت القوم إلا فرسًا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: {ءامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ} الخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها وليس كذلك وكذلك {إِلا أَن تَكُونَ تجارة} لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك {إِلا} لأنه ليس له القتل مطلقًا وإلا لكان مباحًا فتنوع المنقطع حينئذٍ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.وافهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعًا ما يرد على الظاهر: وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤل هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس ولم يكن اسمه من قبل بل كان اسمه عزازيل أو الحرث، وكنيته أبا مرة ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه. والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ.
قال عمر بن الخطاب: لو قدمت السلام لأجزتك، ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك، لقوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول: هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو، فالواو لا تفيد الترتيب، وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد.الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى} فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي صلى الله عليه وسلم.ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة.الحجة السابعة عشرة: أن نتكلم في جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم فنقول: إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مطاع ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 19 22] وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولًا لله.وثانيها: كونه كريمًا على الله تعالى.وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره.ورابعها: كونه مكينًا عند الله.وخامسها: كونه مطاعًا في عالم السموات.وسادسها: كونه أمينًا في كل الطاعات مبرءًا عن أنواع الخيانات.ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ} ولو كان محمد مساويًا لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارنًا له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصًا من منصب محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيرًا لشأنه وإبطالًا لحقه وذلك غير جائز على الله فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون، وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة.فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام.قلنا لأن قوله: {وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين} يبطل ذلك.ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعًا على أنه قد كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئًا من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل هاهنا لا يدل على عدمها بالإجماع، أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة هاهنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمدًا عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة هاهنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام هاهنا بهذه الصفات الست وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم أيضًا بصفات ست، وهي قوله: {يا أيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46] فالوصف الأول: كونه نبيًا والثاني: كونه رسولًا والثالث: كونه شاهدًا والرابع: كونه مبشرًا والخامس: كونه نذيرًا والسادس: كونه داعيًا إلى الله تعالى بإذنه والسابع: كونه سراجًا والثامن: كونه منيرًا وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني.الحجة الثامنة عشرة: الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلمًا لمحمد عليه السلام بدليل قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] والمعلم لابد وأن يكون أعلم من المتعلم، وأيضًا فالعلوم قسمان: أحدهما: العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته؛ فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى.وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها، لأنه عليه السلام أطول عمرًا وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم.وثانيها: العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام، وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالمًا بكل الشرائع الماضية والحاضرة، وهو أيضًا عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام، ما كان عالمًا بذلك، فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علمًا من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر، والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علمًا منهم بدليل قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب، فإنا نرى الرجل المبتدع محيطًا بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئًا من الثواب فضلًا عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مرارًا عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر.الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] فهذه الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم.ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم، أما قوله: إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثوابًا من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك.الحجة العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى: «وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه» وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف.ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضًا فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء، هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية، واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى.الحجة الأولى: قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه.الاعتراض عليه: لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعًا للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجودًا للملائكة ومن وجه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم.الحجة الثانية: الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به.الاعتراض: لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع، وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضًا فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله، أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضًا فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} أكمل من درجاتهم حين قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى: «لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين» الحجة الثالثة: الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكنًا لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم».{مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة.الاعتراض: لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور، ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل.الحجة الرابعة: الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك.الاعتراض: المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك، فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة، بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا: هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدئ الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها.واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة.الحجة الخامسة: الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة، والعلوي خير من السفلي، واللطيف أكمل من الكثيف.الاعتراض: هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سببب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّي} [الإسراء: 85] وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل.أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور، وأيضًا فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة.وعلوم البشر على الضد في كل ذلك، وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائمًا يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآحر: الاعتراض: لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن هاهنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أيامًا كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر.الحجة السابعة: الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب، ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليبًا وتصريفًا لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى: {فالمقسمات أَمْرًا} [الذاريات: 4] والعقول أيضًا دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر.والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر.الاعتراض: لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس.الحجة الثامنة: الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عز وجل متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها ألبتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكًا يسدده ويهديه.الاعتراض: هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل، أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة: الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذٍ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لاسيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلًا عن الزيادة.الاعتراض: كل ما ذكرتموه منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باقٍ بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر.الحجة العاشرة: قالوا الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالًا من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضًا فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية.الاعتراض: هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد.الحجة الحادية عشرة: أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور.الحجة الثانية عشرة: التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضًا فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران: أحدهما: الناطق الذي لا يكون مائتًا وهو الملك: والآخر المائت الذي لا يكون ناطقًا وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود.الاعتراض: أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثوابًا فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق.واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور: أحدهما: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة.وثانيها: أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] ومعلوم أن أعلى الناس منصبًا عند الملك من كان قائمًا مقامه في الولاية والتصرف، وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في الأرض} [الحج: 65] ثم أكد هذا التعميم بقوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة لجزائه وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال.وثالثها: أن آدم عليه السلام كان أعلم والأعلم أفضل، أما إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء: {قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم} [البقرة: 32] فعند ذلك قال الله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالمًا بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علمًا على الله ودالًا عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] معناه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة.فإن قيل: يشكل هذا بقوله تعالى: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم فكذا هاهنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَاء العالمين} [آل عمران: 42] ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا هاهنا قلنا؛ الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجودًا في ذلك الزمان ولما لم يكن موجودًا لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجودًا حين قال الله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضًا فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.وخامسها: قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم.وسادسها: أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه:الأول: أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوي أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة واحدة.الثاني: أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى: {فاعتبروا ياأولى الأبصار} [الحشر: 2] وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص.الثالث: أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسبابًا لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السموات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع.الرابع: أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثوابًا بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل العبادات أحمزها» أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا هاهنا.وسابعها: أن الله تعالى خلق الملائكة عقولًا بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئًا بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتبارًا لأحد الطرفين بالآخر.وثامنها: أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة.وتاسعها: ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال: «لو دنوت أنملة لاحترقت».وعاشرها: قوله عليه الصلاة والسلام: «إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض، أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل، وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر» فدل هذا الخبر على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمدًا أفضل من الملك.هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك.أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا: قد سبق بيان أن من الناس من قال: المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيرًا من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك وأيضًا أليس من مذهبنا أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية: فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحدًا من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] وأما الحجة الثالثة: فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالمًا بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالمًا بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان عالمًا بهذه اللغات بأسرها وأيضًا فإن إبليس كان عالمًا بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم عليه السلام لم يكن عالمًا ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصًا من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر.أما الحجة الرابعة: فهي أقوى الوجوه المذكورة.أما الحجة الخامسة: وهي قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] فلا يلزم من كون محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله: {فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر.وأما الحجة السادسة: وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر.أما الحجة السابعة: فهي جمع بين الطرفين من غير جامع.وأما الحجة الثامنة: وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند.وأما الوجهان الآخران: فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق. اهـ.قوله تعالى: {أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين}.قال الفخر:اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذورًا في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع الاختيار، أما من لم يكن قادرًا على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله: {وَكَانَ مِنَ الكافرين}.قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه:أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه، وثانيها: أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه.وثالثها: قال تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} ولا يجوز أن يكون كافرًا بأن لا يفعل ما لا يقدرعليه.ورابعها: أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذورًا أولى من أن يكون مذمومًا قال ومن اعتقد مذهبًا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة، والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضًا: صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع؟ فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد؟ أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله؟ فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذٍ يلزمك كل ما أوردته علينا، أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضًا فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيًا والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه في أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك، ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذٍ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا. اهـ.
|